السيناريوهات متوفرة والمخرجون جاهزون :لماذا تتجنّب تلفزاتنا إنتاج المسلسلات التاريخية ؟

منذ عقود خلت والمشاهد التونسي ينتظر عملا دراميا تاريخيا واحدا يشفي الغليل، ويقدم تاريخ تونس للأجيال المتعاقبة، والمشكلة حسب أهل الذكر ليست في النصوص وإنما في كلفة الإنتاج.

عدم إنتاج أعمال درامية تاريخية توثق لتاريخ تونس، في الواقع موضوع يتجه مباشرة إلى المرفق العمومي، أي التلفزة الوطنية التونسية، لأنها الأقدر على إنتاج مثل هذه الأعمال، بل ومن واجبها ذلك، على عكس الخواص الذين يحددون انتاجاتهم عادة حسب نظرية العرض والطلب، وقد كانت الانتاجات التاريخية شحيحة منذ افتتاح التلفزة التونسية فلم تتجاوز الأعمال التاريخية عدد أصابع اليد ومنها مسلسل «وردة» سنة 1989 و»الواثق بالله الحفصي» و»ديك الجنة»…
بيد أن التلفزة التونسية نفسها لم تنتج عملا تاريخيا منذ بداية التسعينات، وذلك لعدة أسباب، هذه الأسباب يطول شرحها حسب المنتج نجيب عياد و لكنه يلخصها في سببين رئيسيين، السبب الأول هو أن الأعمال التاريخية كلفتها باهضة وتفوق كلفة إنتاج مسلسل اجتماعي بنسبة تتراوح من 50 بالمائة إلى مائة بالمائة أحيانا وتتجاوزها.
أما السبب الثاني، كما جاء على لسان محدثنا، فيتمثل في أنه ليس ثمة نصوص تمس الآخرين، (ويقصد المشاهد العربي) لكي يتسنى تسويق هذه الأعمال خارج تونس، وهو أيضا ما لمح له المخرج حمادي عرافة، حين قال إن إنتاج الأعمال التاريخية في البلدان العربية، يقف وراءها عديد المنتجين، وعديد القنوات التي تبث العمل الواحد، بينما في تونس، يمكن في أقصى الحالات ترويج إنتاج تاريخي في قناة ليبية أو جزائرية إذا كان الإنتاج مشتركا، أو في سوريا مجانا كما حصل سابقا. وأجمع كل من المنتج نجيب عياد والمخرج حمادي عرافة والسيناريست والممثل حسين محنوش، وبأقل درجة السيناريست نور الدين الورغي خلال حديثهم ل»الشروق»، على أن كلفة الأعمال الدرامية التاريخية مكلفة جدا، لذلك فرض واقع الإنتاج التونسي تجنبها على حد تعبير حمادي عرافة.
وأكد عرافة في هذا السياق، أن إنتاج أعمال درامية تاريخية في الظروف الحالية للبلاد وللإنتاج الدرامي وخاصة في التلفزة التونسية، أمر صعب للغاية، لأنه مكلف جدا، وبالنسبة إليه كمخرج قال إن العمل التاريخي يتطلب ديكورات خاصة وملابس واكسسوارات خاصة لإخراجه في أفضل الظروف وبالتالي العملية ستكون مكلفة جدا.
المستشهر والمنتج والمتفرج
وعلى صعيد آخر ربط المخرج حمادي عرافة تجنب الأعمال التاريخية إلى الواقع الإنتاجي التونسي، حين قال إن المنتجين يفكرون في النجاعة ويبحثون عن أعمال درامية معاصرة، وهذا في حد ذاته مرتبط بالمستشهرين، الذين يتدخلون بطريقة مباشرة أو غير مباشرة في هذا الصدد، وأعطى كمثال على ذلك، مسلسل «فلاش باك» الذي يبث على قناة التاسعة، حين اعتبر أن هذا المسلسل، أفضل عمل درامي يقدم في شهر رمضان الحالي، لكنه لم يتمكن من حصد ومضات إشهارية كالتي حصدتها أعمال أخرى أقل قيمة منه.
وغير بعيد عن المخرج حمادي عرافة، ذهب الفنان حسين المحنوش، إلى أن المنتجين اليوم يبحثون عن صورة فيها السيارت الفاخرة والفيلات والقصور الفخمة لا الخيول والفرسان، مشددا على أن كلفة بعض الأعمال الدرامية الاجتماعية ناهزت في السنوات الأخيرة كلفة عمل تاريخي دون أن تحقق نجاحا يذكر.
وتابع المحنوش في هذا الصدد: «يقولون إن الأعمال التاريخية مكلفة لكن ما رأيناه من إنتاجات في السنوات الأخيرة أيضا مكلفة، فـ»وردة وكتاب» بلغت كلفته ثلاثة مليارات، وهذه الميزانية مع إضافات قليلة يمكن أن تنتج مسلسل «سنابك على الجمر»، أو عمل يحكي على فترة من تاريخ بلادنا كفترة الحماية، أو الاستقلال…».
ما جاء على لسان الفنان حسين المحنوش، كان قريبا مما عرج عليه المخرج حمادي عرافة حين قال: «أعتقد أن المشاهد التونسي فيه نسبة هامة من الكهول غالبا والمتقدمون في السن يطلبون الأعمال التاريخية وثمة نسبة كبيرة أيضا من الشباب تريد مشاهدة أعمال أقرب لواقعها المعيش…».
النصوص موجودة والإنتاج مفقود
ولئن تحدث المنتج نجيب عياد باقتضاب عن إشكالية النصوص أو السيناريوهات،مشيرا إلى صعوبة تسويقها، فإن من تحدثنا معهم في هذا الإطار، أكدوا أن النصوص موجودة، فكاتب مسلسل «الدوار» وبطله حسين المحنوش، كتب منذ ثلاث سنوات تقريبا مسلسلا في 30 حلقة يتناول السيرة الذاتية لأبي الحسن الشاذلي والجوانب التاريخية التي ميزت القرن السابع عشر هجري، لكنه لم يتقدم بهذا العمل الجاهز نصا إلى أية قناة، مرجحا أن يقدمه لاحقا إلى التلفزة الوطنية التونسية. المحنوش قدم أيضا مسلسلا منذ سنوات لأكثر من قناة وهو مسلسل «سنابك على الجمر»، وهو عمل حاول من خلاله توظيف الوضعية العامة التي تعيشها بلادنا، في زمن آخر هو زمن الحماية ليبرز غطرسة الرئيس من خلال هيمنة القايد وغيرها من الإشارات المضمنة في العمل، الذي من المفترض أن ينتجه المنتج عبد العزيز بن ملوكة، بعد الاتفاق بينه وبين المحنوش وحددت حتى كلفة الانتاج التي تظاهي ثلاثة مليارات على حد قول محدثنا. وعلى غرار حسين المحنوش استعرض المخرج حمادي عرافة عديد الأعمال التاريخية التي كانت ستنتجها التلفزة، وكان سيخرجها، على غرار مسلسل «معتمد ابن العباد» سيناريو علي العرفاوي ومسلسل «عهد الأمان» الذي تنطلق أحداثه سنة 1861 وتتواصل إلى غاية سنة 1881 وكان من المفترض أن ينتج العمل أحمد عطية والسيناريو لعلي دب.
«احكي يا واد» في الرفوف رغم اقتنائه
ومن طرائف إنتاج الأعمال الدرامية التاريخية، في التلفزة التونسية تلك التي حصلت مع المخرج حمادي عرافة والسيناريست نور الدين الورغي، حيث اقتنت التلفزةالتونسية سنة 1997 سيناريو مسلسل «إحكي يا واد» وتحصل المسرحي نور الدين الورغي على مستحقاته ككاتب سيناريو وتأجل تصوير العمل أكثر من مرة ولم ينجز إلى الآن، وخرج المخرج حمادي عرافة لتحديد أماكن التصوير سنة 2007، حسب روايتي المؤلف والمخرج، لكن العمل لم ينجز إلى الآن لأسباب مجهولة على حد تعبير الورغي.
«إحكي يا واد» كما تحدث عنه كاتبه، تنطلق أحداثه سنة 1954 وتنتهي بمصيبة بنزرت على حد تعبيره، وتدور في دوار بالشمال الغربي قرب واد مجردة، لكن هذا العمل تأجل من سنة 1997 إلى سنة 2000 ثم إلى سنة 2002 ثم إلى سنة 2007، وظل بين الرفوف طيلة 20 سنة، حتى أنه قانونيا عادت ملكيته إلى كاتب السيناريو…
ولكن الكاتب نور الدين الورغي، شدد على أنه لن يطالب التلفزة التونسية بمليم واحد… فقط هو ينتظر إنجاز هذا العمل والوقت مازال مناسبا لذلك لتطّلع الأجيال الجديدة في تونس والجزائر على تاريخها.. على تاريخ الفلاقة وحرب الجزائر واللاجئين الجزائريين والوضعية التاريخية والاجتماعية لتونس في تلك الفترة، فأبطال العمل لم يذكرهم التاريخ لكنهم كتبوا التاريخ على حد تعبيره.

الشروق اونلاين

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.