جلستا الاستماع اللتان عقدتهما هيئة الحقيقة والكرامة يومي 18 و 17من الشهر الجاري أخرجتا التونسيين من معيشهم اليومي إلى متخيل آخر عاشوه مبهوري الأنفاس على وقع حكايات الجدات عن مدن الغيلان و الأشباح. انبعث الضحايا من جميع ألوان الطيف من أقبية العذاب وجلسوا قبالة الدنيا بأسرها يثبتون لها في سرديات تؤكد ما قاله يوما الرسام الإسباني ” الحقيقة أغرب من الخيال ” في سياق آخر غير الفن يروي قصة صمود الإنسان أمام آلة التعذيب الجهنمية السلاح الوحيد لحاكم تعوزه الحجة. تحرر المكتوب التاريخي مجللا بعظمة الإنسان مكرسا انتصار الدم على السيف في لحظة مشبعة بإنسانية سخية مبرأة من الثأر والانتقام تترجم مرة أخرى عن تضحية من نوع آخر مستمدة من مخزون قيم السماحة والعفو ذاك المخزون الذي طمرته شهوة التسلط في ظلام اللاوعي. جلسوا قبالة الدنيا بأسرها ينظفون التاريخ من باثولوجيا الحكام التي زورته ويعالجون أعطاب الماضي المثخن بالجراح فكانت كل جملة يفوهون بها تحررهم من غصة تكتم أنفاسهم في الجلستين ساد خشوع رهيب إكراما لصوت الضحية وإجلالا لأسفار الصبر والعذاب ترويها ذوات سفحت إنسانيتها على مذبح الحرية. ومع كل مقطع يروى تسمق قامة الضحية وتتضاءل قامة الجلاد .. تسطع الضحية بنقائها ويسود الجلاد بسوء ما باء به جلسات الاستماع – رغم كل ما قيل – علاج لمقهوري الأمس وترياق لجلاديهم وتصحيح لتاريخ الوطن وتكريم للحقيقة بعد الدوس عليها عقودا متطاولة من الزمن. سيكون لهذه الجلسات بالغ الأثر على الحياة السياسية لاسيما وقد شرع فيها في لحظة تشهد فلترة للمشهد العام من خلال الصراع الحزبي – الحزبي والحكومي – النقابي. سيكون لها بلا ريب انعكاس مباشر على المحطات الانتخابية القادمة. وستدفع بعض الجهات الثمن غاليا. سيغتسل الوطن بماء وثلج وبرد ويخرج إلى العالم في ثوب آخر منقى من كل الشوائب وسندشن مرحلة أخرى ستكون أجمل وأنظف سنتخفف من أثقال الماضي المضرج بالدماء وسنسير مرفوعي الرؤوس متطلعين إلى مستقبل مترع بالإنسانية وسيصبح الماضي ذكرى بعيدة لا سلطان لها على ضمائرنا.
مصبــــــــــــــــــــاح شنيـــــــــــــب