عن فوضى نظام التقييم وأزمة التعليم، بقلم الاستاذ عبد اللطيف الحداد

abdellatif-haddadبعيدا عن الوَلوَلَة .. لكن بعيدا أيضا عن الشخصنَة والجَلْوَلَة:
إنّـــي أتَّــهِـــــــم !

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

رأيي الذي قد لا يُعجِبُ الكثيرين في هذه الفوضى التي تعرفها جُلّ الإعداديات والمعاهد، أنّه من ضيق الأفق والاختزالية بمكان، أنْ تتمّ شخصنة تعليم متأزم مترهّل ووضع مسؤولية كل ما يحدث على كاهل واحد فردٍ مُفرَدٍ ولو كان وزيرا.

[2]
وإذا كان العكس هو الصحيح، فلماذا لمْ نسمع قبل اليوم، لجانَ الإصلاح ولجنة القيادة والنقابات -عدا نقابة الثانوي وبدرجة أقلّ الأساسي- والمتفقدين باعتبار التقييم من صميم مشمولاتهم البيداغوجية ولماذا لمْ نسمع الخبراء الجوّالين عبْر البلاتوات والسياسيين والنشطاء المدنيين وبقية القوى المُجتمعية تنبس ببنت شفة .. حتّى إذا وُحِلْ المنجِل في الڤ‍ُلّة، وفشا الهَرْجُ والمَرْجُ، واشتعلت نائرة المتعلّمين واشتغلت ثائرتُهم، وعجّوا وضجّوا، بدأنا ننام ونصحو على أصوات الاستغاثة والنُّدبة: واتعليماه ! واتربيتاه ! وامستقبلاه ! واتونساه !

[3]
اليوم تفكّرتو ؟!
ألم يَكن من المُتاح المتيسّر أن تروا كل هذا قبل وُقوعِه بمجرّد تملّي مُقدّماتِه ؟ أم أنّ لجانَ الإصلاح غرقت في العمل حتّى فاتَها أنْ ترى المُخرجاتِ والمآلاتِ التي نراها اليوم ؟ وهل إنّ مِن المنطق والوجاهة اجتزاءَ العملية الإصلاحية على النحو الذي جَرَى في العام الفارط وتعلّق بصُداع الحال ذاته وهو نظام التقييم والذي عُدنا إلى السقوط فيه بانتقائية تترك مُجْمَلَ البنية وتقتصر منها على جزءٍ لا يُلتَفت فيه إلى عضوية علاقته ببقية الأجزاء المُكوّنة للفعل التعليمي بكلّ ما فيه من التركيب والتعقيد ؟ وهذا الجزءُ كان تغييرَ نظام التقييم ونظام العُطل مع الاحتفاظ ببقية الأنظمة من تعلّمات وزمنيّات ونُظُم تسييرية وتنشيطية ومُحتويات معرفية ولا سيّما من حيث الكثافة والتراكم الكمّي المفرط حدّ الشناعة.

[4]
لا يَقُلْ لي أحدٌ بأنّ الوزيرَ وَحدَه هو المسؤول لأنّي لم أر سوى نقابة الثانوي تستصرخ كل المَعنيّين بشأن التربية وتُنبِّه منذ أشهر عديدة إلى الهاوية التي سنرتدّ إليها ونَهوي فيها. لو شهدنا ندوة صحفية أو قرأنا بياناً مهما كان صغيرا أو حتى تدوينة فايسبوكية تضع الناس أمام مسؤولياتهم .. وتتبرّأ من كلّ ما شهده المسارُ من الانكسارات والتعثّرات بسبب انعدام الرؤية الهيكلية الواضحة ومخرجات الاستشارة وما انخرَط فيه الوزير من شعبوية وحسابات سياسية وأوهام زعاماتية وشَرَهٍ فاض على كلّ الحُدود للنفاذ من شقوق حزبه وحكومته السابقة ليكون على رأس هذا أو تلك .. لو رأينا ذلك أو شيئا منه، لما بادرْنا بالظنّ والاتهام وتحميل المسؤوليات لمن وَجَبَ عليهم تَحَمُّلُها.

[5]
لذلك أنا لا أميل إلى هذه الشخصنَة الدالة إمّا على تفكير يضجّ بالحسابات والأجندات وإمّا على عزوف عن التفكير أصلا.
ولذلك أيضا وأيضا أنا أتهم. إنّي أتهمُ الكلّ وبدون استثناء بمَن فيهم نحن الأساتذة الذين استشارونا فاندفعَ أكثرُنا عن غير قَصْدٍ ورويّةٍ أو حُبّاً في التغيير وقطعاً مع التقليد والتعاود أو تَوقاً إلى جديد لعلّه أفضل وأنجع، اندفَعَ أكثرُنا باتجاه نظام تقييمي سداسي يُديم المراقبَة ويُلغي الأسبوع المُغلَق وإن كُنّا قد بَنَيْنا مقترحاتنا تلك على أساس تغيير جوهري يطال مختلف الجوانب التي نعتبر العطالة التعليمية كامنة فيها من التعلّم إلى المحتوى إلى الزمن إلى الفضاء إلى الطرائق والمناهج والأدوات والأنشطة المُوازية والمرافقة.

[6]
لِنَكُنْ صرحاءَ إذن ونُزهاءَ:
هل أزمة التعليم بدأت مِن أو كَمنت في أو انتهت إلى هذا المُربّع المُحتقِن الذي نحن فيه الآن مُنقطِعةً عن باقي المربّعات بزواياها القائمة والمنفرجة والحادّة والمُنبسِطة ؟ قطعا لا. إنّها أزمة أشملُ وأبعدُ تضرب بجذورها في أعماق بيئتنا وشخصيتنا الثقافية وتُلامس أغصانُها وأفنانُها أطراف كوكبِ مُعَولَم امّحت فيه الحدود وذابت أو كادت الخصوصيات .. أزمة مدرسةٍ لم تَعُد تعني للمتعلّم شيئا فلا هي بفضاء حُرية لِتَيْنَعَ فيه الزهرَة ولا هي بفضاء جذّاب لتنموَ فيه وتزكو .. أزمةُ مدرسةٍ مُنقطعة عن مُحيطها ومنبتّة ومُغتربة عن المكان والزمان والإنسان .. مدرسةٍ ترهّلت بِناها وتصدّعت، وجفّت مَواردُها وشحّت: البشريةُ والماليةُ والرمزيةُ على حدّ سواء. ولعلّي لا أزيد في عِلمِ العالِمين عِلما إذا قُلتُ بأنّها أزمة مدرسة يُعادُ بِناؤُها في غيابِ قاعدةٍ تُقام عليها الأسس .. مدرسةٍ يُرفَعُ سقفُها بدون عَمَد .. مدرسةٍ يُرادُ لها أنْ تكون لا فوق الأرض ولا تحت السماء. وما أعنيه هو غيابٌ فادح لمشروع وطني جامع ينضوي داخله هذا المشروع الكبير الذي اِسمُه إصلاحُ التعليم. وهذا الغيابُ هو بذاته الذي حالَ دون نجاح التونسيات والتونسيين في إعادة بناء بلادهم وصياغة مؤسساتها وأُطُرِها على أساس الثورة وبهديٍ ودفْعٍ منها.

[7]
حتّى لكأنّ كل شيء مضى وسَلَفَ باتَ هو الأضمن والأنسب والأقوم.
وما هو كذلك في الحقيقة .. إذ لو كان كذلك لما فررنا من أتّونِه وما كُنّا لنهرُبَ من جحيمِه.
المستقبل لا يُقيم أبدا في الماضي إلاّ مع العَجَزة الرّقَدَة من أمثالنا الذين لم يستطيعوا فرض أنفسهم على زمانهم ومكانهم .. وآثروا مضغَ ثورتهم كعلكة مطّاطية مُنكّهَة تذهبُ طاقةُ عضلات فُكوكهم فيها .. فلا يكون لهم منها غيرَ تشنّجِ الفم وتآكلِ الأسنان.
ثــــــــورة قُـلــتُـــــم !؟

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.