عندما لا تجد حلا لها، تعاني القضايا الكبرى من سطوة الأفهام الضيِّقة، والقولبة المخِلة بروحها.. ويصار إلى الابتعاد عن طبيعتها وجوهرها، إلى الجانب النفسي والعاطفي، الذي يحيط بها، فتغدو على غير حقيقتها، مما يزيد من التعقيد، ويجعل المَهمة أكثر صعوبة.. والقضية الفلسطينية الكبيرة في دلالاتها ومعانيها، والحاضرة عبر قرن من الزمان، كما لم تحضر قضية أخرى، أصابها من ذلك المرض الشيء الكثير، حتى تم تفريغُها من كثير من عناصرها الأساسية على المستوى النظري والواقعي.
وهنا لا بد أن نثير عدة أفهام تقتحم وعي الناس ومسلماتهم، حتى نعيد المركبة على السكة، لأنه يراد لنا أن تعمى عنا رؤية المشهد، ومعرفة عناصره، لاسيما على جبهة الأعداء والأصدقاء.. من هذه الأفهام أن القضية الفلسطينية منذ الربيع العربي تراجعت، وأصبحت ليست ذات أولوية، وعزَّز هذا الفهم تصريح الرئيس الأمريكي بذلك، وطغت أحداث البلدان العربية وفوضى الساحة الفلسطينية من انقسام ولهث خلف مفاوضات عبثية أدى إلى الاعتقاد بأن القضية الفلسطينية لم تعد هي المركزية في قضايانا والشاهد على هذا المعيار هو تضاؤل حجم الاهتمام الإعلامي بها.. ويزيد الطين بلة ما تحاول بعض الأنظمة العربية من تمريره بتطبيعها مع الكيان الصهيوني من خلال علاقات ترتقي إلى تشكيل أحلافٍ أمنية لم ينكرها أيُّ الأطراف وتتباهى القيادة الصهيونية بذلك.
إنَّها عملية خداع كبرى تتم بوسائل عديدة كي يتم تفتيت كل شيء في بلداننا فيما نحن منشغلون عن فهم طبيعة المعركة وجوهرها.. فمن جديد: كيف يمكننا فهم طبيعة المعركة وإدراك جوهرها؟ وأين نضع قضية فلسطين؟ وحتى نقترب من التجديد نلقي نظرة على الكيان الصهيوني فبالأضداد تُعرف الأشياء.. نبدأ بالحديث عن بُعدَيْ الكيان الصهيوني: البُعد الأول الوجود الصهيوني وهذا قائم على نظرية عنصرية صهيونية تعتبر المبرر الايديولوجي لجلب اليهود من شتى أصقاع الأرض لإقامة كيان خاص على أنقاض فلسطين.. والبعد الآخر هو دور هذا الكيان ووظيفته في الإقليم، والعلاقة بين الوجود والوظيفة طردية.. ومع الزمن أصبح واضحا أن الدور يتمدد ولا يقتصر على أن يكون الكيان الصهيوني قاعدة أمنية عسكرية استراتيجية للغرب ولأمريكا بشكل خاص ولم يعُد كما وصفه هنري كيسنجر بأنه سوط أمريكا في المنطقة تهدّد به من تشاء.. إنما أصبح دور الكيان الصهيوني يتعدى ذلك بكثير أمنيا واستراتيجيا فأينما بحثت عن أسباب نكبة وأزمة في أي بلد عربي فأنت ستجد حتما أن هناك أيدي صهيونية، فمن تدمير مفاعل تموز العراقي واغتيال العلماء المصريين ومحاولات الاختراق الدؤوبة للمفاعل النووي الإيراني والتسهيل أمام مهمات الهجمات الاستعمارية الإستراتيجية، فمثلا جنوب السودان ما كان له أن ينفصل لولا الدور الصهيوني بالتدريب والاستخبارات كما صرح بذلك قادة الجنوب وأفصح عنه ضباط أمن صهاينة، والأمر نفسه في شمال العراق حيث كان للموساد الصهيوني بزعامة المسؤول الأمني الكبير “ديفد بن اليعازر” وقتها في منتصف السبعينيات الدورُ الواضح في تعميق روح الانفصال ومنطقه وظروفه.. والأمر نفسه يمكن ملاحظته في أكثر من مكان لاسيَّما في العراق بعد سقوط النظام واحتلال الأمريكان حيث انهمكت مجموعات الموساد في تصفية علماء العراق ورجالاته.. وما يجري حاليا من إمداد جيش النصرة وسواه من مجموعات مسلحة في سورية بالمؤن والعلاج والمعلومات الأمنية أمرٌ مهم في تحديد الدور.. ويمكن متابعة اختراقات الموساد الصهيوني للدول الإفريقية المحاذية للدول العربي وكيف يتم تحريضها ضد الدول العربية.
من هنا نكتشف أن الكيان الصهيوني لم يكتف بالاهتمام بوجوده البيولوجي في أرض فلسطين على صعيد الاستيطان وإنشاء بنية صناعية تجارية وعسكرية، وهذا بُعد مهم في مشروعه، لكنه أيضا يقوم بدور رئيسي وطليعي في المنطقة والإقليم كله لتفتيته واختراقه واستنزافه وتخريب عناصر قوّته ومنعه من التطور التكنلوجي وتشكيل التهديد المستمر لأمنه، فماذا يعني تخزين مئات الصواريخ النووية والأسلحة فائقة التطور في الكيان الصهيوني؟ هل المقصود من ذلك الشعب الفلسطيني؟.. إن هذه المهمة لها بُعدان: أحدهما خدمة لاستمرار الوجود الاستعماري الصهيوني في فلسطين بعدم السماح بتواجد أيّ قوة عربية.. أما البُعد الآخر فهو ما يناط به من قبل الادارات الغربية في سياق هجومها الشامل والمركّز والمتواصل على بلداننا العربية..
بدأنا هكذا نتعرّف على عناصر المشهد كما هو بعد أن أزحنا الضباب عنها.. وهنا نطرح أسئلة مباشرة: إلى أي نتيجة وصل التدخل الأجنبي في حراك الشعوب ونُخبها السياسية وتنظيماتها في مرحلة “الربيع العربي” وما قبله؟ ولنضرب مثلا صارخا في السودان والعراق وسورية وليبيا ودول عربية وإفريقية أخرى.. حيث يتم تفتيت الإقليم إلى إثنياته وتحريضه على بعضه وإذكاء أوار الحرب بينها..
والهجمة الغربية الاستعمارية على أمتنا بهذا الشكل تجعل من الكيان الصهيوني كوجود ومَهمة يحتل مركزية المشروع الاستعماري.. وهكذا تصبح القضية الفلسطينية بما تعنيه من صراع مع قاعدة المشروع الغربي مركزية لمشروع نهضة الأمة المتمثل في وحدتها وتقدّمها التكنولوجي وتصنيعها، ولا يمكن العمل على أي بُعد من أبعاد النهضة من دون ربطه بامتداداته الطبيعية والتي تتجمَّع في المركز..
هنا نريد القول المباشر أيضا إن الغرب يوزع أدواته في الصراع ضدنا ويستخدم كل الأنواع الثقافية والأمنية والسياسية والاقتصادية للوصول إلى هدف مركّز يتمثل في تأبيد التخلف والجوع والفقر والتبعية في منطقتنا.. ومن هنا فلابد أن ندرك أن أي خطوة حقيقية في أي بلد من بلداننا لتجاوز التخلف والحد من الفقر والجوع والتحرّر من قوانين التبعية إنما هي ستكون بشكل مباشر مصطدمة مع المهمة الأساسية للكيان الصهيوني في المنطقة.
الغرب الاستعماري لم يتوقف ولن يتوقف عن هجومه الاستراتيجي على عناصر القوة في بلداننا، فهو يرى في ذلك مبرر هيمنته وتفوقه واستمرار الرفاه في مجتمعاه بنهبه ثرواتنا بأبخس الأثمان وخلق أسواق استهلاكية لمنتجاته وبذلك يحافظ على هيمنة نظامه الرأسمالي، لذلك فإن القضية الفلسطينية تُبرز مركزية الصراع بين أمتنا والغرب سواء رأينا ذلك أم عمي علينا.. والغرب يدرك ذلك تماما ويعمل على أساسه ولم تتراجع القضية الفلسطينية لديه خطوة كما يعمي علينا، بل إنها الآن أكثر في حِسِّه من أي مرحلة سبقت تتفاعل في مجموع القضايا.. وأن حرماننا من رؤية ذلك يعني أننا لن نمتلك رؤية حضارية لمواجهة العدو الذي يستهدف وجودنا ومستقبلنا ويعني بعثرة وعينا والزج بنا في قضايا فاقدة التواصل والتبرير.. إننا بحاجة لتعميق هذه الرؤية لكي نرى عناصر المشهد والترابط والتفاعل فيما بينها بوضوح وندرك كيفية مواجهة التحديات ونحسن ترتيب أولويات المواجهة الحضارية مع كل الأبعاد الروحية والقومية للمسألة.
تولانا الله برحمته.